الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **
وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين أنه الحق الرئيس المطاع في قومه ((عدي بن حاتم الطائي))، ونحن نذكر قصته رواها الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وغيرهم. قال عدي بن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما رفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل(ص 28) ذلك: ((إني لا أرجو أن يجعل الله يده في يدي)) قال: فقام لي، فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتي بي داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله)) قال: قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال: ((إنما يفرك أن يقال الله تعالى أكبر، وتعلم أن شيئا أكبر من الله))؟ ! قال:قلت:لا، قال: ((فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال)) قال: قلت: فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحاً، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار، جعلت أغشاه آتيه طرفي النهار. قال: فبينا أنا عنده عشبة إذ جاءه قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلى وقام فحث عليهم، ثم قال: ((ولو بصاع، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار، ولو بتمرة، ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقى الله، وقائل له ما أقول لكم؛ ألم أجعل لك سمعاً وبصراً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ ! فينظر قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، ثم لا يجد شيئا يقي وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم، حتى لتسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيتها السرق)). قال فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طي؟ !. وكان عدي مطاعا في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم. وقال حماد بن زيد: عن أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة: قال عدي بن حاتم: بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول؛ فقلت: لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة فاستشرفني الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم الطائي!جاء عدي بن حاتم الطائي! فقال: ((يا عدي بن حاتم الطائي، أسلم تسلم)) فقلت: إني على دين، قال: ((أنا أعلم بدينك منك))، قلت: أنت أعلم بديني مني؟ ! قال: ((نعم)) قال هذا ثلاثا، قال: ((ألست لوسياً)) قلت: بلى، قال: ((ألست ترأس قومك)) قلت: بلى، قال: ((ألست تأخذ المرباع)) قلت: بلى، قال: ((فإن ذلك لا يحل لك في دينك)) قال: فوجدت بها على غضاضة. ثم قال: ((لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألبا واحدا، هل رأيت الحيرة؟)) قلت: لم أرها وقد علمت مكانها، قال: ((فإن الظعينة سترحل من الحيرة، تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن الله علينا كنوز كسرى ابن هرمز)) قلت: (ص 29) كسرى ابن هرمز! قال:((كنوز كسرى ابن هرمز، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته)) قال: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، ووالله لتكونن الثالثة، إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان ((سلمان الفارسي)) من أعلم النصارى بدينهم، وكان قد تيقن خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة قبل مبعثه، فلما رآه عرف أنه هو النبي الذي بشر به المسيح، فآمن به، واتبعه، ونحن نسوق قصته. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم، عن محمود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:حدثني سلمان الفارسي من فِيه قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل حبه إياي حتى حبه إياي حبسني في بيت كما تحبس الجارية. فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي نوقدها لا نتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوما، فقال: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها، فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد. ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعته، فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته، قال: يا بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ . قلت: يا أبت، مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت حتى غربت الشمس، قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا، فخافني فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة فجئته (ص 30)، فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع. ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة يرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما رأوها، قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة!!. وجاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا يصلى أرى أنه أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، ولقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه. فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له:يا فلان، إن فلان أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه. فلما حضرته الوفاة قلت له:يا فلان، إن فلان قد أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ قال:يا بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال:أقم عندي. فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له:يا فلان، إن فلانا أوصي بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ فقال:يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية، من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري، فقال:أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة. ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له:يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال:يا بني، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا(ص 31) عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه؛ ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث. ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم:احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيمتي هذه، قالوا:نعم، فأعطيتموها، فحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى، ظلموني فباعوني إلى رجل يهودي، فكنت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال:يا فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه:ذلك ما تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال:مالك ولهذا؟ أقبل على عملك! فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال. وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا فدخلت عليه، فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:((كلوا)) وأمسك فلم يأكل، فقلت في نفسي:هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا. وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به، فقلت:إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه فأكلوا معه فقلت في نفسي:هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وعلي شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استديرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحول)) فتحولت فجلست (ص 32) بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر واحد، قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتب يا سلمان)) فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعينوا أخاكم)) فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، يعينني الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي)) ففقرت، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي على المال. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ((ما فعل الفارسي المكاتب؟)) فدعيت له، فقال ((خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان)) فقلت:وأين تقع يا رسول الله مما علي؟ !قال: ((خذها فإن الله سيؤدى بها)) فأخذتها فوزنت منها لهم والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.
|